فصل: بَابُ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.بَابُ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ:

(وَلَا قَطْعَ فِيمَا يُوجَدُ تَافِهًا مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْخَشَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ وَالسَّمَكِ وَالطَّيْرِ وَالصَّيْدِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْمَغَرَةِ وَالنُّورَةِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَتْ الْيَدُ لَا تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ»، أَيْ الْحَقِيرِ، وَمَا يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا، فِي الْأَصْلِ بِصُورَتِهِ غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ حَقِيرٌ تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ وَالطِّبَاعُ لَا تَضَنُّ بِهِ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ أَخْذُهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْ الْمَالِكِ فَلَا حَاجَةَ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ فِي سَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ وَلِأَنَّ الْحِرْزَ فِيهَا نَاقِصٌ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْخَشَبَ يُلْقَى عَلَى الْأَبْوَابِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الدَّارِ لِلْعِمَارَةِ لَا لِلْإِحْرَازِ وَالطَّيْرُ يَطِيرُ وَالصَّيْدُ يَفِرُّ وَكَذَا الشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ تُورِثُ الشُّبْهَةَ، وَالْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِهَا.
وَيَدْخُلُ فِي السَّمَكِ الْمَالِحُ وَالطَّرِيُّ، وَفِي الطَّيْرِ الدَّجَاجُ وَالْبَطُّ وَالْحَمَامُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِإِطْلَاقِ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ» وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا الطِّينَ وَالتُّرَابَ وَالسِّرْقِينَ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمَا مَا ذَكَرْنَا.
الشَّرْحُ:
(بَابُ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ) مَا يُقْطَعُ فِيهِ هُوَ الْمَسْرُوقُ، وَهُوَ مُتَعَلَّقُ السَّرِقَةِ إذْ هُوَ مَحَلُّهَا: فَهُوَ ثَانٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الْفِعْلِ فَلِذَا أَخَّرَهُ عَنْ بَيَانِ السَّرِقَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا.
قولهُ: (لَا قَطْعَ فِيمَا يُوجَدُ تَافِهًا مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ) أَيْ إذَا سُرِقَ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ أُخِذَ وَأُحْرِزَ وَصَارَ مَمْلُوكًا.
التَّافِهُ وَالتَّفَهُ: الْحَقِيرُ الْخَسِيسُ مِنْ بَابِ لَبِسَ (كَالْخَشَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ وَالسَّمَكِ وَالطَّيْرِ وَالصَّيْدِ) بَرِّيًّا أَوْ بَحْرِيًّا (وَالزِّرْنِيخِ وَالْمَغَرَةِ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ: الطِّينُ الْأَحْمَرُ وَيَجُوزُ إسْكَانُهَا (وَالنُّورَةِ).
قولهُ: (الْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) هُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ.
وَمُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«لَمْ يَكُنْ السَّارِقُ يُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ». زَادَ فِي مُسْنَدِهِ: «وَلَمْ يُقْطَعْ فِي أَدْنَى مِنْ ثَمَنِ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ».
وَرَوَاهُ مُرْسَلًا أَيْضًا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ هِشَامٍ بِهِ، وَكَذَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ.
أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مُسْنَدًا أَخْرَجَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَبِيصَةَ الْفَزَارِيِّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَلَمْ يَقُلْ فِي عَبْدِ اللَّهِ هَذَا شَيْئًا إلَّا أَنَّهُ قَالَ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَلَمْ أَرَ لِلْمُتَقَدِّمِينَ فِيهِ كَلَامًا فَذَكَرْتُهُ لِأُبَيِّنَ أَنَّ فِي رِوَايَاتِهِ نَظَرًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْمُرْسَلَاتِ كُلَّهَا حُجَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَصْلُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَمُتَابَعَةِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَا يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ بِصُورَتِهِ) أَيْ الْأَصْلِيَّةِ بِأَنْ لَمْ تَحْدُثْ فِيهِ صَنْعَةٌ مُتَقَوِّمَةٌ (غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ حَقِيرٌ) فَيَكُونُ مُتَنَاوَلَ النَّصِّ فَلَا يُقْطَعُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَالْكِتَابُ مَخْصُوصٌ بِقَاطِعٍ فَجَازَ مُطْلَقًا وَقولهُ (بِصُورَتِهِ) لِيَخْرُجَ الْأَبْوَابُ وَالْأَوَانِي وَالْخَشَبُ.
وَ(غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ) لِيَخْرُجَ نَحْوُ الْمَعَادِنِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالصُّفْرِ وَالْيَوَاقِيتِ وَاللُّؤْلُؤِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَحْجَارِ لِكَوْنِهَا مَرْغُوبًا فِيهَا فَيُقْطَعُ فِي كُلِّ ذَلِكَ.
وَعَلَى هَذَا نَظَرَ بَعْضُهُمْ فِي الزِّرْنِيخِ فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ بِهِ لِأَنَّهُ يُحَرَّزُ وَيُصَانُ فِي دَكَاكِينِ الْعَطَّارِينَ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ بِخِلَافِ الْخَشَبِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَدْخُلُ الدُّورَ لِلْعِمَارَةِ فَكَانَ إحْرَازُهُ نَاقِصًا، بِخِلَافِ السَّاجِ وَالْأَبَنُوسِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْوَسْمَةِ وَالْحِنَّاءِ وَالْوَجْهُ الْقَطْعُ لِأَنَّهُ جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِحْرَازِهِ فِي الدَّكَاكِينِ.
وَقولهُ (تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ) يَعْنِي فَلَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى اسْتِحْصَالِهِ وَعَلَى الْمُعَالَجَةِ فِي التَّوَصُّلِ إلَيْهِ (وَلَا تَضَنُّ بِهِ الطِّبَاعُ) إذَا أُحْرِزَ، حَتَّى إنَّهُ (قَلَّمَا يُوجَدُ أَخْذُهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْ الْمَالِكِ) وَلَا يُنْسَبُ إلَى الْجِنَايَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضِّنَّةَ بِهَا تُعَدُّ مِنْ الْخَسَاسَةِ.
وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ فِيهِ كَمَا دُونَ النِّصَابِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلِأَنَّ الْحِرْزَ فِيهِ نَاقِصٌ) فَإِنَّ الْخَشَبَ بِصُورَتِهِ الْأُولَى يُلْقَى عَلَى الْأَبْوَابِ، وَإِنَّمَا يُدْخَلُ فِي الدَّارِ لِلْعِمَارَةِ لَا لِلْإِحْرَازِ، وَذَلِكَ فِي زَمَانِهِمْ.
وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَيُحْرَزُ فِي دَكَاكِينِ التُّجَّارِ.
قَالَ: (وَالطَّيْرُ يَطِيرُ) يَعْنِي مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ وَبِذَلِكَ تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ أَنَّ قولهُ وَالطَّيْرُ يَطِيرُ مِنْ بَيَانِ نُقْصَانِ الْحِرْزِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ قَاصِرٌ عَنْ جَمِيعِ صُوَرِ الدَّعْوَى (وَكَذَا الشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ) أَيْ فِي الصَّيْدِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ» (وَهُوَ) حَالَ كَوْنِهِ (عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ) أَيْ الْأَصْلِيَّةِ (تُورِثُ) الشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ فِيهِ (شُبْهَةً) بَعْدَ الْإِحْرَازِ فَيَمْتَنِعُ الْقَطْعُ.
وَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الشُّبْهَةَ الْعَامَّةَ الثَّابِتَةَ فِي الْكُلِّ بِالْإِبَاحَةِ لِأَصْلِهَا ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ» فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْحَشِيشَ وَالْقَصَبَ بِلَفْظِ الْكَلَإِ فَفِيهِ قُصُورٌ أَيْضًا.
قَالَ: (وَيَدْخُلُ فِي السَّمَكِ الْمَالِحُ وَالطَّرِيُّ) وَصَوَابُهُ السَّمَكُ الْمَلِيحُ أَوْ الْمَمْلُوحُ (وَفِي الطَّيْرِ الدَّجَاجُ وَالْبَطُّ وَالْحَمَامُ لِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي قولهُ وَالطَّيْرُ يَطِيرُ فَيَقِلُّ إحْرَازُهُ عَنْهُ.
وَأَمَّا قولهُ (وَلِإِطْلَاقِ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ») فَحَدِيثٌ لَا يُعْرَفُ رَفْعُهُ، بَلْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ فِيهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِرَجُلٍ سَرَقَ دَجَاجَةً فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَهُ.
فَقَالَ لَهُ سَلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ عُثْمَانُ: لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِرَجُلٍ قَدْ سَرَقَ طَيْرًا فَاسْتَفْتَى فِي ذَلِكَ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ، فَقَالَ: مَا رَأَيْت أَحَدًا قَطَعَ فِي الطَّيْرِ، وَمَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ قَطْعٌ، فَتَرَكَهُ عُمَرُ.
فَإِنْ كَانَ هَذَا مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ السَّمَاعِ، وَإِلَّا فَتَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ عِنْدَنَا وَاجِبٌ لِمَا عُرِفَ.
قولهُ: (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا الطِّينَ وَالتُّرَابَ وَالسِّرْقِينَ) وَرُوِيَ عَنْهُ إلَّا فِي الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالطِّينِ وَالْجِصِّ وَالْمَعَازِفِ وَالنَّبِيذِ، لِأَنَّ مَا سِوَى هَذِهِ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ مُحَرَّزَةٌ فَصَارَتْ كَغَيْرِهَا، وَالْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ زَالَتْ وَزَالَ أَثَرُهَا بِالْإِحْرَازِ بَعْدَ التَّمَلُّكِ (وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمَا مَا ذَكَرْنَا) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَثُبُوتِ الشُّبْهَةِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا قَطْعَ فِيمَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَاللَّبَنِ وَاللَّحْمِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا فِي كَثَرٍ» وَالْكَثَرُ الْجُمَّارُ، وَقِيلَ الْوَدِيُّ. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا قَطْعَ فِي الطَّعَامِ» وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَالْمُهَيَّأِ لِلْأَكْلِ مِنْهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَاللَّحْمِ وَالثَّمَرِ لِأَنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْحِنْطَةِ وَالسُّكَّرِ إجْمَاعًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ فِيهَا لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ أَوْ الْجِرَانُ قُطِعَ» قُلْنَا: أَخْرَجَهُ عَنْ وِفَاقِ الْعَادَةِ، وَاَلَّذِي يُؤْوِيهِ الْجَرِينُ فِي عَادَتِهِمْ هُوَ الْيَابِسُ مِنْ الثَّمَرِ وَفِيهِ الْقَطْعُ.
قَالَ: (وَلَا قَطْعَ فِي الْفَاكِهَةِ عَلَى الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ الَّذِي لَمْ يُحْصَدْ) لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا قَطْعَ فِيمَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَاللَّبَنِ وَاللَّحْمِ) وَالْخُبْزِ أَيْضًا ذَكَرَهُ فِي الْإِيضَاحِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ، وَلَا فَرْقَ فِي عَدَمِ الْقَطْعِ بِاللَّحْمِ بَيْنَ كَوْنِهِ مَمْلُوحًا قَدِيمًا أَوْ غَيْرَهُ (وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ بِهَا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَقَالَ: مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلِهِ، وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ، وَعَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَخْنَسِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ.
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَهِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحَرِيسَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ مَرَاتِعِهَا فَقَالَ: فِيهَا ثَمَنُهَا مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبٌ وَنَكَالٌ، وَمَا أُخِذَ مِنْ عَطَنِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ الْمِجَنَّ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالثِّمَارُ وَمَا أُخِذَ مِنْهَا فِي أَكْمَامِهَا؟ فَقَالَ: مَنْ أَخَذَ بِفَمِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْ خُبْنَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَمَنْ احْتَمَلَ فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ مَرَّتَيْنِ وَضَرْبٌ وَنَكَالٌ، وَمَا أُخِذَ مِنْ أَجْرَانِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي لَفْظٍ «مَا تَرَى فِي الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ؟ فَقَالَ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَطْعٌ إلَّا مَا أَوَاهُ الْجَرِينُ، فَمَا أُخِذَ مِنْ الْجَرِينِ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَجَلَدَاتٌ وَنَكَالٌ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ بِهَذَا الْمَتْنِ، وَقَالَ: قَالَ إمَامُنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، إذَا كَانَ الرَّاوِي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ثِقَةً فَهُوَ كَأَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عَمْرٍو، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَوَقَفَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الثِّمَارِ قَطْعٌ حَتَّى يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ».
وَأَخْرَجَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ سَوَاءٌ أَجَابَ (بِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ وَفْقِ الْعَادَةِ، وَاَلَّذِي يُؤْوِيهِ الْجَرِينُ فِي عَادَتِهِمْ هُوَ الْيَابِسُ مِنْ الثَّمَرِ وَفِيهِ الْقَطْعُ) لَكِنْ مَا فِي الْمُغْرِبِ مِنْ قولهِ: الْجَرِينُ الْمِرْبَدُ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ الرُّطَبُ لِيَجِفَّ وَجَمْعُهُ جُرُنٌ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَكُونُ فِيهِ الرُّطَبُ فِي زَمَانٍ وَهُوَ أَوَّلُ وَضْعِهِ، وَالْيَابِسُ وَهُوَ الْكَائِنُ فِي آخِرِ حَالِهِ فِيهِ، ثُمَّ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَفْظُ الْجِرَانِ، وَكَأَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْجِرَانُ فَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى الشَّكِّ، وَجِرَانُ الْبَعِيرِ مُقَدَّمُ عُنُقِهِ مِنْ مَذْبَحِهِ إلَى مَنْخِرِهِ، وَالْجَمْعُ جُرُنٌ، فَجَازَ أَنْ يُسَمَّى بِهِ هَاهُنَا الْجِرَابُ الْمُتَّخَذُ مِنْهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ حَتَّى يُؤْوِيَهُ الْمِرْبَدُ أَوْ الْجِرَابُ، ثُمَّ الْمَعْنَى مِنْ قولهِ حَتَّى يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ: أَيْ الْمِرْبَدُ حَتَّى يَجِفَّ: أَيْ حَتَّى يَتِمَّ إيوَاءُ الْجَرِينِ إيَّاهُ فَإِنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يُنْقَلُ عَنْهُ وَيُدْخَلُ الْحِرْزَ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الْجَرِينِ لَيْسَ حِرْزًا لِيَجِبَ الْقَطْعُ بِالْأَخْذِ مِنْهُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ حَارِسٌ يَتَرَصَّدُهُ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِإِطْلَاقِ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» وَقوله: «لَا قَطْعَ فِي الطَّعَامِ» أَمَّا الْأَوَّلُ فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ: «أَنَّ غُلَامًا سَرَقَ وَدِيًّا مِنْ حَائِطٍ، فَرُفِعَ إلَى مَرْوَانَ فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ، فَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ».
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي.
قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: هَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. وَرَوَاهُ غَيْرُهُ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ وَاسِعًا انْتَهَى.
وَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَارَضَ الِانْقِطَاعُ وَالْوَصْلُ، وَالْوَصْلُ أَوْلَى لِمَا عُرِفَ أَنَّهُ زِيَادَةٌ مِنْ الرَّاوِي الثِّقَةِ، وَقَدْ تَلَقَّتْ الْأُمَّةُ هَذَا الْحَدِيثَ بِالْقَبُولِ فَقَدْ تَعَارَضَا فِي الرُّطَبِ الْمَوْضُوعِ فِي الْجَرِينِ، وَفِي مِثْلِهِ مِنْ الْحُدُودِ يَجِبُ تَقْدِيمُ مَا يَمْنَعُ الْحَدَّ دَرْءًا لِلْحَدِّ، وَلِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْمَسْرُوقَ بِمِثْلَيْ قِيمَتِهِ، وَإِنْ نُقِلَ عَنْ أَحَدٍ فَعُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافِهِ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ قُوَّةَ ثُبُوتِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قوله تعالى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فَلَا يَصِحُّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ، فَفِيهِ دَلَالَةُ الضَّعْفِ أَوْ النَّسْخِ فَيَنْفَرِدُ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ الْمُعَارِضِ، فَبَطَلَ قول مَنْ قَالَ يَتَقَيَّدُ حَدِيثُ الثَّمَرِ وَالْكَثَرِ بِهَذَا التَّفْصِيلِ: يَعْنِي يُفَصَّلُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ أَنْ يَأْكُلَهُ مِنْ أَعْلَى النَّخْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَوْ يُخْرِجَهُ فَفِيهِ ضِعْفُ قِيمَتِهِ.
وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ، أَوْ يَأْخُذَهُ مِنْ بَيْدَرِهِ فَيُقْطَعُ وَالْكَثَرُ الْجُمَّارُ.
وَقِيلَ هُوَ الْوَدِيُّ وَهُوَ صِغَارُ النَّخْلِ، وَجَزَمَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّهُ خَطَأٌ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «إنِّي لَا أَقْطَعُ فِي الطَّعَامِ» وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْحَقِّ وَلَمْ يُعِلَّهُ بِغَيْرِ الْإِرْسَالِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ عِنْدَنَا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِمُوجِبِهِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْحِنْطَةِ وَالسُّكَّرِ لَزِمَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفُسَاءُ كَالْمُهَيَّإِ لِلْأَكْلِ مِنْهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَاللَّحْمِ وَالثِّمَارِ الرَّطْبَةِ مُطْلَقًا فِي الْجَرِينِ وَغَيْرِهِ.
هَذَا وَالْقَطْعُ فِي الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا إجْمَاعًا إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ سَنَةِ الْقَحْطِ، وَأَمَّا فِيهَا فَلَا، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ أَوْ لَا لِأَنَّهُ عَنْ ضَرُورَةِ ظَاهِرٍ، أَوْ هِيَ تُبِيحُ التَّنَاوُلَ، وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا قَطْعَ فِي مَجَاعَةِ مُضْطَرٍّ» وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «لَا قَطْعَ فِي عَامِ سَنَةٍ».

متن الهداية:
(وَلَا قَطْعَ فِي الْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ) لِأَنَّ السَّارِقَ يَتَأَوَّلُ فِي تَنَاوُلِهَا الْإِرَاقَةَ، وَلِأَنَّ بَعْضَهَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَفِي مَالِيَّةِ بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ فَتَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمَالِيَّةِ.
قَالَ: (وَلَا فِي الطُّنْبُورِ) لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعَازِفِ (وَلَا فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى يَجُوزُ بَيْعُهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُهُ.
وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ يُقْطَعُ إذَا بَلَغَتْ الْحِلْيَةُ نِصَابًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمُصْحَفِ فَتُعْتَبَرُ بِانْفِرَادِهَا.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْآخِذَ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالنَّظَرَ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَا مَالِيَّةَ لَهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَكْتُوبِ وَإِحْرَازُهُ لِأَجْلِهِ لَا لِلْجِلْدِ وَالْأَوْرَاقِ وَالْحِلْيَةِ وَإِنَّمَا هِيَ تَوَابِعُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّبَعِ، كَمَنْ سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا خَمْرٌ وَقِيمَةُ الْآنِيَةِ تَرْبُو عَلَى النِّصَابِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا قَطْعَ فِي الْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ) أَيْ الْمُسْكِرَةِ.
وَالطَّرَبُ اسْتِخْفَافُ الْعَقْلِ، وَمَا يُوجِبُ الطَّرَبَ شِدَّةُ حُزْنٍ وَجَزَعٍ فَيَسْتَخِفُّ الْعَقْلُ فَيَصْدُرُ مِنْهُ مَا لَا يَلِيقُ كَمَا تَرَاهُ مِنْ صِيَاحِ الثَّكْلَيَاتِ وَضَرْبِ خُدُودِهِنَّ وَشَقِّ جُيُوبِهِنَّ فِيمَا لَا يُجْدِي نَفْعًا وَيَسْلُبُ أَجْرَ مُصِيبَتِهِنَّ ثُمَّ يُوجِبُ لَعْنَهُنَّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ، أَوْ شِدَّةُ سُرُورٍ فَيُوجِبُ مَا هُوَ مَعْهُودٌ مِنْ الثُّمَالَى وَالْمَسْأَلَةُ بِلَا خِلَافٍ، أَمَّا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فَلِأَنَّهَا كَالْخَمْرِ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَنَا إنْ كَانَ الشَّرَابُ حُلْوًا فَهُوَ مِمَّا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَإِنْ كَانَ مُرًّا فَإِنْ كَانَ خَمْرًا.
فَلَا قِيمَةَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهَا فَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَقَوُّمِهِ اخْتِلَافٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ مِنْ الْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ فِي مَوْضِعِ وُجُوبِ الدَّرْءِ بِالشُّبْهَةِ، وَلِأَنَّ السَّارِقَ يُحْمَلُ حَالُهُ عَلَى أَنَّهُ يَتَأَوَّلُ فِيهَا الْإِرَاقَةَ فَتَثْبُتُ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ، وَفِي سَرِقَةِ الْأَصْلِ يُقْطَعُ بِالْخَلِّ وَنَقَلَ النَّاطِفِيُّ مِنْ كِتَابِ الْمُجَرَّدِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ فِي الْخَلِّ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ خَمْرًا مَرَّةً.
وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ بِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ: لَا قَطْعَ فِي الرُّبِّ وَالْجُلَّابِ.
قولهُ: (وَلَا فِي الطُّنْبُورِ) وَنَحْوِهِ مِنْ آلَاتٍ الْمَلَاهِي بِلَا خِلَافٍ أَيْضًا لِعَدَمِ تَقَوُّمِهَا حَتَّى لَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ ضَمِنَهَا لِغَيْرِ اللَّهْوِ، إلَّا أَنَّهُ يَتَأَوَّلُ آخِذُهُ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ.
وَالْمَعَازِفُ جَمْعُ الْمِعْزَفِ وَهِيَ آلَةُ اللَّهْوِ.
قولهُ: (وَلَا فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) وَمَالِكٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (يُقْطَعُ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا بَلَغَتْ حِلْيَتُهُ نِصَابًا، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: يُقْطَعُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ مَالٌ مُحَرَّزٌ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى، وَلِأَنَّ وَرَقَهُ مَالٌ وَبِمَا كُتِبَ فِيهِ ازْدَادَ بِهِ وَلَمْ يُنْتَقَصْ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: إنْ أَخَذَهُ يَتَأَوَّلُ الْقِرَاءَةَ لِإِزَالَةِ الْإِشْكَالِ لَا يُقْطَعُ (وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْآخِذَ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالنَّظَرَ فِيهِ) وَلِأَنَّ الْمَالِيَّةَ لِلتَّبَعِ وَهِيَ الْحِلْيَةُ وَالْأَوْرَاقُ لَا لِلْمَتْبُوعِ وَهُوَ الْمَكْتُوبُ (وَإِحْرَازُهُ لِأَجْلِهِ) وَالْآخِذُ أَيْضًا يَتَأَوَّلُ أَخْذَهُ لِأَجْلِهِ لَا لِلتَّبَعِ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّبَعِ كَمَنْ سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا خَمْرٌ وَقِيمَةُ الْآنِيَةِ تَزِيدُ عَلَى النِّصَابِ) لَا يُقْطَعُ، وَكَمَنْ سَرَقَ صَبِيًّا وَعَلَيْهِ حُلِيٌّ كَثِيرٌ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ الْمَالَ.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ ثَوْبًا لَا يُسَاوِي عَشَرَةً وَوَجَدَ فِي جَيْبِهِ عَشَرَةً مَضْرُوبَةً وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا لَمْ أَقْطَعْهُ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِهَا فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِأَنَّ سَرِقَتَهُ تَمَّتْ فِي نِصَابٍ كَامِلٍ، وَلَكِنَّا نَقول: إنَّ السَّارِقَ إنَّمَا قَصَدَ إخْرَاجَ مَا يَعْلَمُ بِهِ دُونَ مَا لَا يَعْلَمُ بِهِ، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِالدَّرَاهِمِ فَقَصْدُهُ أَخْذُ الدَّرَاهِمِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْهَا فَإِنَّ قَصْدَهُ الثَّوْبُ وَهُوَ لَا يُسَاوِي نِصَابًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الثَّوْبُ مِمَّا يُجْعَلُ وِعَاءً عَادَةً لِلدَّرَاهِمِ قُطِعَ وَإِلَّا لَا.
وَهُنَا رُدِّدَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ ظُهُورُ قَصْدِ الْمَسْرُوقِ، فَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ قَصْدَ النِّصَابِ مِنْ الْمَالِ قُطِعَ وَإِلَّا لَا.
وَعَلَى هَذَا فَمَسْأَلَةُ الْعِلْمِ بِالْمَصْرُورِ وَعَدَمِهِ صَحِيحٌ، إلَّا أَنَّ كَوْنَهُ يَعْلَمُ أَوْ لَا يَعْلَمُ وَهُوَ الْمَدَارُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ وَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ، وَمَا تَقَدَّمَ هُوَ مَا إذَا لَمْ يُقِرَّ بِعِلْمِهِ بِمَا فِي الثَّوْبِ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ دَلَالَةُ الْقَصْدِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ كِيسًا فِيهِ الدَّرَاهِمُ فَلَا يُقْبَلُ قولهُ لَمْ أَقْصِدْ لَمْ أَعْلَمْ.

متن الهداية:
(وَلَا قَطْعَ فِي أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ) لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ فَصَارَ كَبَابِ الدَّارِ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّهُ يُحَرَّزُ بِبَابِ الدَّارِ مَا فِيهَا وَلَا يُحَرَّزُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ مَا فِيهِ حَتَّى لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ مَتَاعِهِ.
قَالَ: (وَلَا الصَّلِيبِ مِنْ الذَّهَبِ وَلَا الشِّطْرَنْجِ وَلَا النَّرْدِ) لِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ مَنْ أَخَذَهَا الْكَسْرَ نَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ، بِخِلَافِ الدِّرْهَمِ الَّذِي عَلَيْهِ التِّمْثَالُ لِأَنَّهُ مَا أُعِدَّ لِلْعِبَادَةِ فَلَا تَثْبُتُ شُبْهَةُ إبَاحَةِ الْكَسْرِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الصَّلِيبُ فِي الْمُصَلَّى لَا يُقْطَعُ لِعَدَمِ الْحِرْزِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتٍ آخَرَ يُقْطَعُ لِكَمَالِ الْمَالِيَّةِ وَالْحِرْزِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا قَطْعَ فِي أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُ مَالِكٍ لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ بِإِحْرَازِ مِثْلِهِ، وَكَذَا يُقْطَعُ عِنْدَهُمْ فِي بَابِ الدَّارِ، فَقِيَاسُهُ عَلَيْهِ مِنْ رَدِّ الْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ، وَالْوَجْهُ مَا قُلْنَا، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ إمَّا لَيْسَ مُحَرَّزًا أَوْ فِي حِرْزِهِ شُبْهَةٌ إذْ هُوَ بَادٍ لِلْغَادِي وَالرَّائِحِ وَمَعَهَا يَنْتَفِي الْحَدُّ، عَلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي مَقَامِ نَصْبِ الْخِلَافِ لِيُلْزِمَهُ ذَلِكَ بَلْ أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ عَلَى أُصُولِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْصِبْ خِلَافًا وَإِنَّمَا يُعْتَرَضُ بِذَلِكَ لَوْ نَصَبَ الْخِلَافَ.
وَأَفَادَ الْمُصَنِّفُ فِي أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَا قَطْعَ بِسَرِقَةِ مَتَاعِ الْمَسْجِدِ كَحُصْرِهِ وَقَنَادِيلِهِ لِعَدَمِ الْحِرْزِ، وَكَذَا لَا يُقْطَعُ فِي أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ قول مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَالْأَصَحُّ مِنْ قول الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ لَا مَالِكَ لَهُ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ يَنْتَفِي الْقَطْعُ فِي بَابِ الْمَسْجِدِ.
قولهُ: (وَلَا فِي صَلِيبٍ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ وَلَا الشِّطْرَنْجِ) وَلَوْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ وَهُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ بِوَزْنِ قِرْطَعْبٍ (وَلَا النَّرْدِ) لِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ مَنْ أَخَذَهَا الْكَسْرَ: أَيْ إبَاحَةَ الْأَخْذِ لِلْكَسْرِ (نَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ) فَلَا يَجِبُ إلَّا ضَمَانُ مَا فِيهِ مِنْ الْمَالِيَّةِ، وَالصَّلِيبُ مَا هُوَ بِهَيْئَةِ خَطَّيْنِ مُتَقَاطِعَيْنِ، وَيُقَالُ لِكُلِّ جِسْمٍ صُلْبٍ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنْ كَانَ الصَّلِيبُ فِي مُصَلَّاهُمْ) أَيْ مَعَابِدِهِمْ (لَا يُقْطَعُ لِعَدَمِ الْحِرْزِ) لِأَنَّهُ بَيْتٌ مَأْذُونٌ فِي دُخُولِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ فِي حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مَالٌ مُحَرَّزٌ عَلَى الْكَمَالِ، وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَأْوِيلِ الْإِبَاحَةِ، وَهُوَ عَامٌّ لَا يَخُصُّ غَيْرَ الْحِرْزِ وَهُوَ الْمُسْقِطُ.

متن الهداية:
(وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِ الصَّبِيِّ الْحُرِّ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ) لِأَنَّ الْحُرَّ لَيْسَ بِمَالٍ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُلِيِّ تَبَعٌ لَهُ، وَلِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الصَّبِيَّ إسْكَاتَهُ أَوْ حَمْلَهُ إلَى مُرْضِعَتِهِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْطَعُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ هُوَ نِصَابٌ لِأَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ وَحْدَهُ فَكَذَا مَعَ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا سَرَقَ إنَاءَ فِضَّةٍ فِيهِ نَبِيذٌ أَوْ ثَرِيدٌ.
وَالْخِلَافُ فِي الصَّبِيِّ لَا يَمْشِي وَلَا يَتَكَلَّمُ كَيْ لَا يَكُونَ فِي يَدِ نَفْسِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِ الصَّبِيِّ الْحُرِّ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ) يَبْلُغُ نِصَابًا، وَقَيَّدَ بِالْحُرِّ لِيَخْرُجَ الْعَبْدُ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
وَالْحُلِيُّ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ حَلْيٍ بِفَتْحِهَا مَا يُلْبَسُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ جَوْهَرٍ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْطَعُ إذَا بَلَغَ مَا عَلَيْهِ نِصَابًا لِأَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ وَحْدَهُ فَكَذَا مَعَ غَيْرِهِ، وَالْخِلَافُ فِي صَبِيٍّ لَا يَمْشِي وَلَا يَتَكَلَّمُ) فَلَوْ كَانَ يَمْشِي وَيَتَكَلَّمُ وَيُمَيِّزُ لَا يُقْطَعُ إجْمَاعًا لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَكَانَ أَخْذُهُ خِدَاعًا وَلَا قَطْعَ فِي الْخِدَاعِ، وَحَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي الْخِلَافَ عَنْ أَصْحَابِنَا وَمَنْ ذَكَرَهُ كَصَاحِبِ الْمُخْتَلَفِ ذَكَرَ أَنَّهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ.
قِيلَ كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقول وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَإِلَّا أَوْهَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ: يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ الْحُرِّ لِأَنَّهُ كَالْمَالِ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كَانَ كَمَا ذَكَرْنَا يَكُونُ هُوَ الْمَقْصُودَ بِالْأَخْذِ دُونَ مَا عَلَيْهِ وَإِلَّا لَأَخَذَ مَا عَلَيْهِ وَتَرَكَهُ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا قَطْعَ إلَّا بِأَخْذِ الْمَالِ فَلَا يُقْطَعُ وَإِنْ كَانَ إثْمُهُ وَعِقَابُهُ أَشَدَّ مِنْ سَارِقِ الْمَالِ.
فَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ جَلَّ جَلَالُه: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أُعْطِيَ بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ عَمَلَهُ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ» لَكِنَّ الْقَطْعَ الَّذِي هُوَ الْعُقُوبَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ شَرْعًا.
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ قَصْدِ تَسْكِيتِهِ أَوْ إبْلَاغِهِ إلَى مُرْضِعَتِهِ فَبَعِيدٌ بَعْدَ فَرْضِ تَحَقُّقِ سَرِقَتِهِ الظَّاهِرِ مِنْهَا خِلَافُهُ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا سَرَقَ إنَاءَ فِضَّةٍ فِيهِ نَبِيذٌ أَوْ ثَرِيدٌ) أَوْ كَلْبًا عَلَيْهِ قِلَادَةُ فِضَّةٍ يُقْطَعُ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قول الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِنَاءَ تَابِعٌ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ فِي الْمَتْبُوعِ الْقَطْعُ لَمْ يَجِبْ فِي التَّابِعِ، وَاعْتِقَادِي وُجُوبُ الْقَطْعِ فِي الْإِنَاءِ الْمُعَايَنِ ذَهَبِيَّتُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا كَانَ، فَإِنَّ تَبَعِيَّتَهُ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ لَا بِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ بِالْأَخْذِ إلَيْهِ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَصْلٌ مَقْصُودٌ بِالْأَخْذِ، بَلْ الْقَصْدُ إلَيْهِ أَظْهَرُ مِنْهُ إلَى مَا فِيهِ لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِمَالِيَّتِهِ إلَى أَضْعَافِ مَا فِيهِ، وَالْمَانِعُ مِنْ الْقَطْعِ إنَّمَا هُوَ التَّبَعِيَّةُ فِي قَصْدِ الْأَخْذِ لَا اعْتِبَارُ غَيْرِهِ وَلَا ظَاهِرَ يُفِيدُهُ، وَمَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ مَا فِي التَّجْنِيسِ مِنْ عَلَامَةِ الْعُيُونِ: سَرَقَ كُوزًا فِيهِ عَسَلٌ وَقِيمَةُ الْكُوزِ تِسْعَةٌ وَقِيمَةُ الْعَسَلِ دِرْهَمٌ يُقْطَعُ، وَكَذَا إذَا سَرَقَ حِمَارًا يُسَاوِي تِسْعَةً وَعَلَيْهِ إكَافٌ يُسَاوِي دِرْهَمًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَقَ قُمْقُمَةً فِيهَا مَاءٌ يُسَاوِي عَشَرَةً لِأَنَّهُ سَرَقَ مَاءً مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَبْسُوطِ فِيمَنْ سَرَقَ ثَوْبًا لَا يُسَاوِي عَشَرَةً مَصْرُورٌ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ، قَالَ: يُقْطَعُ إذَا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ مَالًا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ.

متن الهداية:
(وَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ الْكَبِيرِ) لِأَنَّهُ غَصْبٌ أَوْ خِدَاعٌ (وَيُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ) لِتَحَقُّقِهَا بِحَدِّهَا إلَّا إذَا كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ هُوَ وَالْبَالِغُ سَوَاءٌ فِي اعْتِبَارِ يَدِهِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُقْطَعُ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ وَلَا يَتَكَلَّمُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مِنْ وَجْهٍ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ، وَلَهُمَا أَنَّهُ مَالٌ مُطْلَقٌ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ أَوْ بِعَرْضِ أَنْ يَصِيرَ مُنْتَفَعًا بِهِ إلَّا أَنَّهُ انْضَمَّ إلَيْهِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ الْكَبِيرِ) يَعْنِي الْعَبْدَ الْمُمَيِّزَ الْمُعَبِّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْإِجْمَاعِ، إلَّا إذَا كَانَ نَائِمًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَعْجَمِيًّا لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ سَيِّدِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الطَّاعَةِ فَحِينَئِذٍ يُقْطَعُ، ذَكَرَ الِاسْتِثْنَاءَ ابْنُ قُدَامَةَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ مَشَايِخُنَا، بَلْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِي الْآدَمِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ سَوَاءٌ كَانَ نَائِمًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَعْجَمِيًّا، وَقَالُوا: هُوَ لَيْسَ بِسَرِقَةٍ، بَلْ إمَّا غَصْبٌ أَوْ خِدَاعٌ (وَيُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ) الَّذِي لَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، هَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاعَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مَعَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ: أَسْتَحْسِنُ أَنْ لَا أَقْطَعَهُ لِأَنَّهُ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ آدَمِيٌّ مِنْ وَجْهٍ، فَصَارَ كَوْنُهُ آدَمِيًّا شُبْهَةً فِي مَالِيَّتِهِ فَيَنْدَرِئُ الْحَدُّ، فَالدَّفْعُ مِنْهُمَا لَا بُدَّ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ فُسُوقُ اسْتِدْلَالِهِمَا كَمَا قِيلَ.
وَلَهُمَا أَنَّ حَقِيقَةَ السَّرِقَةِ وَهُوَ أَخْذُ مَالٍ مُعْتَبَرٍ خُفْيَةً مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ مَعَ بَاقِي الشُّرُوطِ قَدْ وُجِدَتْ فَيَجِبُ الْقَطْعُ غَيْرُ وَافٍ بِالْمَقْصُودِ، وَقول الْمُصَنِّفِ (وَلَهُمَا أَنَّهُ مَالٌ مُطْلَقٌ لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ) إنْ كَانَ يَمْشِي وَيَعْقِلُ (أَوْ بِعَرْضٍ أَنْ يَصِيرَ مُنْتَفَعًا بِهِ) إنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ أَحْسَنَ مِنْهُ لِتَضَمُّنِ لَفْظِ مُطْلَقٍ مَنْعَ أَنَّ فِي مَالِيَّتِهِ شُبْهَةً وَانْضِمَامُ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ إلَيْهِ لَا يُوجِبُهَا بَعْدَ صِدْقِ مَعْنَى الْمَالِ الْكَامِلِ عَلَيْهِ كَيْفَ وَهُوَ مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ عِنْدَ النَّاسِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْمَالِيَّةِ يُصَيِّرُهُ كَمَالٍ فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ فَسَارِقُهُ كَسَارِقِ دُرَّةٍ نَفِيسَةٍ فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ؛ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ بَلْ الْمَعْنَى عَلَى الْقَلْبِ وَهُوَ سَرِقَةُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ فِيمَا هُوَ مَالٌ لَمْ يَبْعُدْ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَنْعِ ثُبُوتِ الشُّبْهَةِ فِي مَالِيَّتِهِ بِمَا قُلْنَا.

متن الهداية:
(وَلَا قَطْعَ فِي الدَّفَاتِرِ كُلِّهَا) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهَا وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ (إلَّا فِي دَفَاتِرِ الْحِسَابِ) لِأَنَّ مَا فِيهَا لَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْكَوَاغِدَ.
قَالَ: (وَلَا فِي سَرِقَةِ كَلْبٍ وَلَا فَهْدٍ) لِأَنَّ مِنْ جِنْسِهَا يُوجَدُ مُبَاحُ الْأَصْلِ غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ظَاهِرٌ فِي مَالِيَّةِ الْكَلْبِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا قَطْعَ فِي الدَّفَاتِرِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهَا، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ إلَّا فِي دَفَاتِرِ الْحِسَابِ لِأَنَّ مَا فِيهَا لَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ) لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ الْآخِذُ بِهِ نَفْعًا (فَكَانَ الْمَقْصُودُ الْكَوَاغِدَ) وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ: وَلَا يُقْطَعُ فِي الدَّفَاتِرِ كُلِّهَا الْكُتُبُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى عِلْمِ الشَّرِيعَةِ كَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَالشِّعْرِ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي غَيْرِهَا فَقِيلَ مُلْحَقَةٌ بِدَفَاتِرِ الْحِسَابِ فَيُقْطَعُ فِيهَا، وَقِيلَ بِكُتُبِ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهَا قَدْ تَتَوَقَّفُ عَلَى اللُّغَةِ وَالشِّعْرِ.
وَالْحَاجَةُ وَإِنْ قَلَّتْ كَفَتْ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ، وَمُقْتَضِي هَذَا أَنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِي الْقَطْعِ بِكُتُبِ السِّحْرِ وَالْفَلْسَفَةِ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ مَا فِيهَا لِأَهْلِ الدِّيَانَةِ فَكَانَتْ سَرِقَةً صَرْفًا، وَلِأَنَّ عَدَمَ الْقَطْعِ بِإِلْحَاقِهَا بِالْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَتْ إيَّاهَا إذْ لَا تَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ الشَّرِيعَةِ عَلَى مَا فِيهَا، بِخِلَافِ كُتُبِ الْأَدَبِ وَالشِّعْرِ.
وَيُمْكِنُ فِي كُتُبِ الْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ عَدَمُ الْقَطْعِ.
وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ يُقْطَعُ بِالْكُلِّ مِنْ كُتُبِ الشَّرِيعَةِ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَأَنْتَ سَمِعْت مَا بِهِ الدَّفْعُ.
قولهُ: (وَلَا فِي سَرِقَةِ كَلْبٍ وَلَا فَهْدٍ) بِالْإِجْمَاعِ، خِلَافًا لِأَشْهَبَ قَرِينِ ابْنِ الْقَاسِمِ فَإِنَّهُ قَالَ عَدَمُ الْقَطْعِ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْ اتِّخَاذِهِ.
أَمَّا فِي الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ كَكَلْبِ الصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ فَيُقْطَعُ، وَقُلْنَا هُوَ مُبَاحُ الْأَصْلِ وَبِحَسَبِ الْأَصْلِ هُوَ (غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ، وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ظَاهِرٌ فِي مَالِيَّةِ الْكَلْبِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً) فِيهَا.

متن الهداية:
(وَلَا قَطْعَ فِي دُفٍّ وَلَا طَبْلٍ وَلَا بَرْبَطٍ وَلَا مِزْمَارٍ) لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَا قِيمَةَ لَهَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ آخِذُهَا يَتَأَوَّلُ الْكَسْرَ فِيهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا قَطْعَ فِي دُفٍّ وَلَا طَبْلٍ وَلَا بَرْبَطٍ وَلَا مِزْمَارٍ) وَكَذَا جَمِيعُ آلَاتٍ اللَّهْوِ (لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَا قِيمَةَ لَهَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهَا الْكَسْرَ) وَفِي دَالِ الدُّفِّ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ.
وَاخْتُلِفَ فِي طَبْلِ الْغُزَاةِ فَقِيلَ لَا يُقْطَعُ بِهِ، وَاخْتَارَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلَّهْوِ وَإِنْ كَانَ وَضْعُهُ لِغَيْرِهِ، وَقِيلَ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلَّهْوِ فَلَيْسَ آلَةَ لَهْوٍ.

متن الهداية:
(وَيُقْطَعُ فِي السَّاجِ وَالْقِنَا وَالْآبَنُوسِ وَالصَّنْدَلِ) لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ مُحَرَّزَةٌ لِكَوْنِهَا عَزِيزَةً عِنْدَ النَّاسِ وَلَا تُوجَدُ بِصُورَتِهَا مُبَاحَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
قَالَ: (وَيُقْطَعُ فِي الْفُصُوصِ الْخُضْرِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ) لِأَنَّهَا مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ وَأَنْفَسِهَا وَلَا تُوجَدُ مُبَاحَةَ الْأَصْلِ بِصُورَتِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهَا فَصَارَتْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيُقْطَعُ فِي السَّاجِ وَالْقِنَا وَالْآبَنُوسِ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ فِيمَا سُمِعَ (وَالصَّنْدَلِ) وَالْعُودِ الرَّطْبِ لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مُبَاحَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ، فَأَمَّا كَوْنُهَا تُوجَدُ مُبَاحَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَيْسَ فِيهِ شُبْهَةٌ فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَمْوَالِ حَتَّى الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ مُبَاحَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَعَ هَذَا يُقْطَعُ فِيهَا فِي دَارِنَا.
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ: لَا قَطْعَ فِي الْعَاجِ مَا لَمْ يُعْمَلْ، وَكَذَا نَقَلَ الْبَقَّالِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْآبَنُوسِ، وَالظَّاهِرُ الْقَطْعُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَمُقْتَضَى النَّظَرِ عَدَمُ الْقَطْعِ فِي الْعَاجِ لِمَا قِيلَ مِنْ نَجَاسَةِ عَيْنِ الْفِيلِ فَإِنَّهُ يَنْفِي مَالِيَّةَ الْعَاجِ فَحَلَّتْ الشُّبْهَةُ فِي الْمَالِيَّةِ (وَيُقْطَعُ فِي الْفُصُوصِ) النَّفِيسَةِ (وَالزَّبَرْجَدِ لِأَنَّهَا مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ، وَلَا تُوجَدُ مُبَاحَةَ الْأَصْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَصَارَتْ كَالذَّهَبِ).

متن الهداية:
(وَإِذَا اتَّخَذَ مِنْ الْخَشَبِ أَوَانِيَ وَأَبْوَابًا قُطِعَ فِيهَا) لِأَنَّهُ بِالصَّنْعَةِ الْتَحَقَ بِالْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُحَرَّزُ بِخِلَافِ الْحَصِيرِ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ فِيهِ لَمْ تَغْلِبْ عَلَى الْجِنْسِ حَتَّى يُبْسَطُ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ، وَفِي الْحُصْرِ الْبَغْدَادِيَّةِ قَالُوا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي سَرِقَتِهَا لِغَلَبَةِ الصَّنْعَةِ عَلَى الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي غَيْرِ الْمُرَكَّبِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ خَفِيفًا لَا يَثْقُلُ عَلَى الْوَاحِدِ حَمْلُهُ لِأَنَّ الثَّقِيلَ مِنْهُ لَا يُرْغَبُ فِي سَرِقَتِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا اتَّخَذَ مِنْ الْخَشَبِ أَوَانِيَ وَأَبْوَابًا قُطِعَ فِيهَا لِأَنَّهُ) أَيْ الْخَشَبَ (بِالصَّنْعَةِ الْتَحَقَتْ بِالْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ) وَلِهَذَا تُحَرَّزُ (بِخِلَافِ الْحَصِيرِ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ لَمْ تَغْلِبْ عَلَى الْجِنْسِ) لِتَنْقَطِعَ مُلَاحَظَتُهُ بِهَا فَلَمْ تَخْرُجْ بِهَا مِنْ كَوْنِهَا تَافِهًا بَيْنَ النَّاسِ (حَتَّى إنَّ الْحَصِيرَ يُبْسَطُ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ) وَكَذَا الْقَصَبُ الْمَصْنُوعُ بَوَارِي، بِخِلَافِ الْخَشَبِ فَإِنَّهُ غَلَبَتْ الصَّنْعَةُ فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ فَقُطِعَ فِيمَا اتَّصَلَتْ بِهِ مِنْهُ، حَتَّى لَوْ غَلَبَتْ فِي الْحُصْرِ أَيْضًا قُطِعَ فِيهَا كَالْحُصْرِ الْبَغْدَادِيَّةِ وَالْعَبْدَانِيَّةُ فِي دِيَارِ مِصْرَ والْإسْكَنْدَرانيَّة وَهِيَ الْعَبْدَانِيَّةُ. وَيُقْطَعُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ بِالْحُصْرِ مُطْلَقًا.
هَذَا، وَفِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ: سَرَقَ جُلُودَ السِّبَاعِ الْمَدْبُوغَةِ لَا يُقْطَعُ، فَإِذَا جُعِلَتْ مُصَلًّى أَوْ بِسَاطًا يُقْطَعُ.
هَكَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّهَا إذَا جُعِلَتْ ذَلِكَ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ جُلُودَ السِّبَاعِ لِأَنَّهَا أَخَذَتْ اسْمًا آخَرَ.اهـ.
وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ غَلَبَةَ الصَّنْعَةِ الَّتِي يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْجِنْسِ بِهَا أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهَا اسْمٌ.
وَعَلِمْتَ عَدَمَ الْقَطْعِ فِي الْحُصْرِ الَّتِي لَيْسَتْ بِنَفِيسَةٍ مَعَ تَجَدُّدِ اسْمٍ آخَرَ لَهَا فَلْيَكُنْ ذَلِكَ لِنُقْصَانِ إحْرَازِهَا حَيْثُ كَانَتْ تُبْسَطُ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ أَوْ لِأَنَّ شُبْهَةَ التَّفَاهَةِ فِيهَا كَمَا قَالُوا إنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِي الْمِلْحِ لِذَلِكَ؛ وَلَا يُقْطَعُ فِي الْآجُرِّ وَالْفَخَّارِ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ لَمْ تَغْلِبْ فِيهَا عَلَى قِيمَتِهَا.
وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ فِي الزُّجَاجِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ يَسْرُعُ إلَيْهِ الْكَسْرُ فَكَانَ نَاقِصَ الْمَالِيَّةِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْطَعُ كَالْخَشَبِ إذَا صُنِعَ مِنْهُ الْأَوَانِي، ثُمَّ إنَّمَا يُقْطَعُ فِي الْبَابِ الْمَصْنُوعِ مِنْ الْخَشَبِ إذَا كَانَ غَيْرَ مُرَكَّبٍ عَلَى الْجِدَارِ بَلْ مَوْضُوعٌ دَاخِلَ الْحِرْزِ.
أَمَّا الْمُرَكَّبُ فَلَا يُقْطَعُ بِهِ عِنْدَنَا فَصَارَ كَسَرِقَةِ ثَوْبٍ بُسِطَ عَلَى الْجِدَارِ إلَى السِّكَّةِ، وَغَيْرُ الْمُرَكَّبِ لَا يُقْطَعُ بِهِ إذَا كَانَ ثَقِيلًا لَا يَحْمِلُهُ الْوَاحِدُ لِأَنَّهُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ.
وَنُظِرَ فِيهِ بِأَنَّ ثِقَلَهُ لَا يُنَافِي مَالِيَّتَهُ وَلَا يُنْقِصُهَا.
فَإِنَّمَا تَقِلُّ فِيهِ رَغْبَةُ الْوَاحِدِ لَا الْجَمَاعَةِ.
وَلَوْ صَحَّ هَذَا امْتَنَعَ الْقَطْعُ فِي فَرْدَةِ حِمْلٍ مِنْ قُمَاشٍ وَنَحْوِهِ وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَلِذَا أَطْلَقَ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي الْقَطْعَ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ.
وَفِي الشَّامِلِ فِي كِتَابِ الْمَبْسُوطِ: وَقَدْ مَرَّ أَنَّ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ يُقْطَعُ فِي بَابِ الدَّارِ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَمُحَرَّزٌ بِحِرْزِ مِثْلِهِ فِيهِ وَحِرْزُ حَائِطِ الدَّارِ بِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا فِيهَا إذَا كَانَتْ فِي الْعُمْرَانِ، وَمَا كَانَ حِرْزًا لِنَفْسِهِ يَكُونُ حِرْزًا لِغَيْرِهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا مَمْنُوعٌ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ مِثْلُهُ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْحِرْزِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.

متن الهداية:
(وَلَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ) لِقُصُورٍ فِي الْحِرْزِ (وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ) لِأَنَّهُ يُجَاهِرُ بِفِعْلِهِ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا قَطْعَ فِي مُخْتَلِسٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا خَائِنٍ».
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ إلَخْ) وَهُمَا اسْمَا فَاعِلٍ مِنْ الْخِيَانَةِ وَهُوَ أَنْ يُؤْتَمَنَ عَلَى شَيْءٍ بِطَرِيقِ الْعَارِيَّةِ أَوْ الْوَدِيعَةِ فَيَأْخُذَهُ وَيَدَّعِيَ ضَيَاعَهُ، أَوْ يُنْكِرَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَّةً، وَعَلَّلَهُ بِقُصُورِ الْحِرْزِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي يَدِ الْخَائِنِ وَحِرْزِهِ لَا حِرْزِ الْمَالِكِ عَلَى الْخُلُوصِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حِرْزَهُ وَإِنْ كَانَ حِرْزًا لِمَالِكٍ فَإِنَّهُ أَحْرَزَهُ بِإِيدَاعِهِ عِنْدَهُ لَكِنَّهُ حِرْزٌ مَأْذُونٌ لِلسَّارِقِ فِي دُخُولِهِ.
قولهُ: (وَلَا مُنْتَهِبٍ) لِأَنَّهُ مُجَاهِرٌ بِفِعْلِهِ لَا مُخْتَفٍ فَلَا سَرِقَةَ فَلَا قَطْعَ (وَكَذَا الْمُخْتَلِسُ) فَإِنَّهُ الْمُخْتَطِفُ لِلشَّيْءِ مِنْ الْبَيْتِ وَيَذْهَبُ أَوْ مِنْ يَدِ الْمَالِكِ.
وَفِي سُنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَسَكَتَ عَنْهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَعَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ وَهُوَ تَصْحِيحٌ مِنْهُمَا.
وَتَعْلِيلُ أَبِي دَاوُد مَرْجُوحٌ بِذَلِكَ.
وَقَدْ حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَكِنَّ مَذْهَبَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ فِي جَاحِدِ الْعَارِيَّةِ أَنَّهُ يُقْطَعُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِهَا» وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ أَخَذُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ.
وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِأَنَّ الْقَطْعَ كَانَ عَنْ سَرِقَةٍ صَدَرَتْ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ أَيْضًا مُتَّصِفَةً مَشْهُورَةً بِجَحْدِ الْعَارِيَّةِ فَعَرَّفَتْهَا عَائِشَةُ بِوَصْفِهَا الْمَشْهُورِ، فَالْمَعْنَى امْرَأَةٌ كَانَ وَصْفُهَا جَحْدَ الْعَارِيَّةِ فَسَرَقَتْ فَأَمَرَ بِقَطْعِهَا بِدَلِيلِ أَنَّ فِي قِصَّتِهَا «أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ شَفَعَ فِيهَا» الْحَدِيثَ، إلَى أَنْ قَالَ: «فَقَامَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَطِيبًا فَقَالَ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ» وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا حَادِثَةٌ وَاحِدَةٌ لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّعَدُّدِ وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ خُصُوصًا وَقَدْ تَلَقَّتْ الْأُمَّةُ الْحَدِيثَ الْآخَرَ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّهَا لَمْ تَسْرِقْ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ اللَّيْثِ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: كَانَ عُرْوَةُ يُحَدِّثُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: «اسْتَعَارَتْ امْرَأَةٌ مِنِّي حُلِيًّا عَلَى أَلْسِنَةِ أُنَاسٍ يَعْرِفُونَ وَلَا تَعْرِفُ هِيَ فَبَاعَتْهُ، فَأُخِذَتْ فَأُتِيَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهَا»، وَهِيَ الَّتِي شَفَعَ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَقَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ كَانَ حَدِيثُ جَابِرٍ مُقَدَّمًا.
وَيُحْمَلُ الْقَطْعُ بِجَحْدِ الْعَارِيَّةِ عَلَى النَّسْخِ، وَكَذَا لَوْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ «وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَطَعَ امْرَأَةً بِجَحْدِ الْمَتَاعِ، وَأُخْرَى بِالسَّرِقَةِ» يُحْمَلُ عَلَى نَسْخِ الْقَطْعِ بِالْعَارِيَّةِ بِمَا قُلْنَا.
وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ رُكَانَةَ عَنْ أُمِّهِ عَائِشَةَ بِنْتِ مَسْعُودِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهَا قَال: «لَمَّا سَرَقَتْ الْمَرْأَةُ تِلْكَ الْقَطِيفَةَ مِنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمْنَا ذَلِكَ، وَكَانَتْ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ، فَجِئْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُكَلِّمُهُ فِيهَا وَقُلْنَا: وَنَحْنُ نَفْدِيهَا بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَطْهُرُ خَيْرًا لَهَا، فَأَتَيْنَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَقُلْنَا لَهُ: كَلِّمْ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ: مَا إكْثَارُكُمْ عَلَيَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا» قَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْأَسْوَدِ.
وَقِيلَ هِيَ أُمُّ عَمْرٍو بِنْتُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ أُخْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ.

متن الهداية:
(وَلَا قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْقَطْعُ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ» وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مُحْرَزٌ بِحِرْزِ مِثْلِهِ فَيُقْطَعُ فِيهِ.
وَلَهُمَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَفِي» وَهُوَ النَّبَّاشُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَمَكَّنَتْ فِي الْمِلْكِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَيِّتِ حَقِيقَةً وَلَا لِلْوَارِثِ لِتَقَدُّمِ حَاجَةِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ تَمَكَّنَ الْخَلَلُ فِي الْمَقْصُودِ وَهُوَ الِانْزِجَارُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِي نَفْسِهَا نَادِرَةُ الْوُجُودِ وَمَا رَوَاهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا إذَا سَرَقَ مِنْ تَابُوتٍ فِي الْقَافِلَةِ وَفِيهِ الْمَيِّتُ لِمَا بَيَّنَّاهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ) وَهُوَ الَّذِي يَسْرِقُ أَكْفَانَ الْمَوْتَى بَعْدَ الدَّفْنِ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (عَلَيْهِ الْقَطْعُ) وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ أَبُو ثَوْرٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَحَمَّادٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَقول أَبِي حَنِيفَةَ قول ابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ.
ثُمَّ الْكَفَنُ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ مَا كَانَ مَشْرُوعًا فَلَا يُقْطَعُ فِي الزَّائِدِ عَلَى كَفَنِ السُّنَّةِ وَكَذَا مَا تُرِكَ مَعَهُ مِنْ طِيبٍ أَوْ مَالٍ ذَهَبٍ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ وَسَفَهٌ فَلَيْسَ مُحَرَّزًا.
وَفِي الْوَجِيزِ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْعَدَدِ الشَّرْعِيِّ وَجْهَانِ، ثُمَّ الْكَفَنُ لِلْوَارِثِ عِنْدَهُمْ فَهُوَ الْخَصْمُ فِي الْقَطْعِ، وَإِنْ كَفَّنَهُ أَجْنَبِيٌّ فَهُوَ الْخَصْمُ لِأَنَّهُ لَهُ (لَهُمْ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ») وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.
وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَصَرَّحَ بِضَعْفِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَفِي سَنَدِهِ مَنْ يُجْهَلُ حَالُهُ كَبِشْرِ بْنِ حَازِمٍ وَغَيْرِهِ، وَمِثْلُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ («لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَفِي» قَالَ: وَهُوَ النَّبَّاشُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) أَيْ بِعُرْفِهِمْ.
وَأَمَّا الْآثَارُ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رُوِيَ عَنْ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَطَعَ نَبَّاشًا.
وَهُوَ ضَعِيفٌ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، ثُمَّ أَعَلَّهُ بِسُهَيْلِ بْنِ ذَكْوَانَ الْمَكِّيِّ.
قَالَ عَطَاءٌ: كُنَّا نَتَّهِمُهُ بِالْكَذِبِ.
وَيُمَاثِلُهُ أَثَرٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَفِيهِ مَجْهُولٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْخٌ لَقِيته بِمِنًى عَنْ رَوْحِ بْنِ قَاسِمٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ عَلَى النَّبَّاشِ قَطْعٌ.
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ وَجَدَ قَوْمًا يَخْتَفُونَ الْقُبُورَ بِالْيَمَنِ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَتَبَ فِيهِمْ إلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ اقْطَعْ أَيْدِيَهُمْ.
فَأَحْسَنُ مِنْهُ بِلَا شَكٍّ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أُتِيَ مَرْوَانُ بِقَوْمٍ يَخْتَفُونَ: أَيْ يَنْبُشُونَ الْقُبُورَ فَضَرَبَهُمْ وَنَفَاهُمْ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ.اهـ.
وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ بِهِ، وَزَادَ: وَطَوَّفَ بِهِمْ.
وَكَذَا أَحْسَنُ مِنْهُ بِلَا شَكٍّ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أُخِذَ نَبَّاشٌ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ وَكَانَ مَرْوَانُ عَلَى الْمَدِينَةِ فَسَأَلَ مَنْ بِحَضْرَتِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يُضْرَبَ وَيُطَافَ بِهِ.اهـ.
وَحِينَئِذٍ لَا شَكَّ فِي تَرْجِيحِ مَذْهَبِنَا مِنْ جِهَةِ الْآثَارِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَلَهُمْ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقولهِ: وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مُحَرَّزٌ بِحِرْزِ مِثْلِهِ فَيُقْطَعُ فِيهِ.
أَمَّا الْمَالِيَّةُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْحِرْزُ فَلِأَنَّ الْقَبْرَ حِرْزٌ لِلْمَيِّتِ وَثِيَابُهُ تَبَعٌ لَهُ فَيَكُونُ حِرْزًا لَهَا أَيْضًا، وَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَبْرَ بَيْتًا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ حَيْثُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «كَيْفَ أَنْتَ إذَا أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ يَكُونُ الْبَيْتُ فِيهِ بِالْوَصِيفِ؟ يَعْنِي الْقَبْرَ، وَقُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، أَوْ مَا خَارَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْك بِالصَّبْرِ» وَقَدْ بَوَّبَ أَبُو دَاوُد عَلَيْهِ فَقَالَ: بَابُ قَطْعِ النَّبَّاشِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو دَاوُد لِأَنَّهُ سَمَّى الْقَبْرَ بَيْتًا وَالْبَيْتُ حِرْزٌ وَالسَّارِقُ مِنْ الْحِرْزِ يُقْطَعُ وَلِأَنَّهُ حِرْزُ مِثْلِهِ لِأَنَّ حِرْزَ كُلِّ شَيْءٍ مَا يَلِيقُ بِهِ.
فَحِرْزُ الدَّوَابِّ بِالْإِصْطَبْلِ وَالدُّرَّةُ بِالْحُقِّ وَالصُّنْدُوقِ وَالشَّاةِ بِالْحَظِيرَةِ، فَلَوْ سُرِقَ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا قُطِعَ، وَلَوْ سَرَقَ الدُّرَّةَ مِنْ إصْطَبْلٍ أَوْ مِنْ حَظِيرَةٍ لَا يُقْطَعُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَصِيَّ إذَا كَفَّنَ صَبِيًّا مِنْ مَالِهِ لَا يَضْمَنُ لِوَرَثَتِهِ شَيْئًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّزًا كَانَ تَضْيِيعًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فَكَانَ أَخْذُ الْكَفَنِ مِنْ الْقَبْرِ عَيْنَ السَّرِقَةِ.
وَالْجَوَابُ أَوَّلًا مَنْعُ الْحِرْزِ لِأَنَّهُ حُفْرَةٌ فِي الصَّحْرَاءِ مَأْذُونٌ لِلْعُمُومِ فِي الْمُرُورِ بِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا غَلَقَ عَلَيْهِ وَلَا حَارِسَ مُتَصَدٍّ لِحِفْظِهِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مُجَرَّدُ دَعْوَى أَنَّهُ حِرْزٌ تَسْمِيَةً ادِّعَائِيَّةً بِلَا مَعْنًى وَهُوَ مَمْنُوعٌ.
وَلُزُومُ التَّضْيِيعِ لَوْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا مَمْنُوعٌ بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَصْرُوفًا إلَى حَاجَةِ الْمَيِّتِ وَالصَّرْفُ إلَى الْحَاجَةِ لَيْسَ تَضْيِيعًا فَلِذَا لَا يُضْمَنُ، وَلَوْ سَلِمَ فَلَا يَنْزِلُ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي حِرْزِيَّتِهِ شُبْهَةٌ وَبِهِ يَنْتَفِي الْقَطْعُ وَيَبْقَى ثُبُوتُ الشُّبْهَةِ فِي كَوْنِهِ مَمْلُوكًا.
وَفِي ثُبُوتِ الْخَلَلِ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْحَدِّ وَهُوَ مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ زِيَادَةً فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُوجِبُ الدَّرْءَ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْكَفَنَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ، لَا لِلْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ وَلَا لِلْوَارِثِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِنْ التَّرِكَةِ إلَّا مَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَةِ الْمَيِّتِ وَلِذَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِلْغَرِيمِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِحَقِّهِ.
فَإِنْ صَحَّ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا مِلْكَ فِيهِ لِأَحَدٍ لَمْ يُقْطَعْ.
وَإِلَّا فَتَحَقَّقَتْ شُبْهَةٌ فِي مَمْلُوكِيَّتِهِ بِقولنَا فَلَا يُقْطَعُ بِهِ أَيْضًا.
بَلْ نَقول: تَحَقَّقَ قُصُورٌ فِي نَفْسِ مَالِيَّةِ الْكَفَنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالَ مَا يَجْرِي فِيهِ الرَّغْبَةُ وَالضِّنَّةُ وَالْكَفَنُ يَنْفِرُ عَنْهُ كُلُّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ كُفِّنَ بِهِ مَيِّتٌ إلَّا نَادِرًا مِنْ النَّاسِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ شَرْعَ الْحَدِّ لِلِانْزِجَارِ وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ لَمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ.
فَأَمَّا مَا يَنْدُرُ فَلَا يُشْرَعُ فِيهِ لِوُقُوعِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الِانْزِجَارَ حَاصِلٌ طَبْعًا كَمَا قُلْنَا فِي عَدَمِ الْحَدِّ بِوَطْءِ الْبَهِيمَةِ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِتَسْمِيَتِهِ بَيْتًا فَأَبْعَدُ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ إمَّا مَجَازٌ فَإِنَّ الْبَيْتَ مَا يَحُوطُهُ أَرْبَعُ حَوَائِطَ تُوضَعُ لِلْبَيْتِ وَلَيْسَ فِي الْقَبْرِ كَذَلِكَ، عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْبَيْتِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحِرْزَ فَقَدْ يَصْدُقُ مَعَ عَدَمِ الْحِرْزِ أَصْلًا كَالْمَسْجِدِ.
وَمَعَ الْحِرْزِ مَعَ نُقْصَانٍ وَهُوَ كَثِيرٌ، وَمَعَ الْحِرْزِ التَّامِّ، فَمُجَرَّدُ تَسْمِيَتِهِ بَيْتًا لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَطْعَ خُصُوصًا فِي مَقَامِ وُجُوبِ دَرْئِهِ مَا أَمْكَنَ، بَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى بَعْضِ الْمَاصَدَقَاتِ الَّتِي لَا حَدَّ مَعَهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا فِي الْقَبْرِ الْكَائِنِ فِي الصَّحْرَاءِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، أَمَّا لَوْ كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ فَقِيلَ يُقْطَعُ بِهِ لِوُجُودِ الْحِرْزِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ فَلَا يُقْطَعُ عِنْدَنَا وَإِنْ وُجِدَ الْحِرْزُ لِلْمَوَانِعِ الْأُخَرِ مِنْ نُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ وَعَدَمِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَالْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِهِ (وَكَذَا إذَا سَرَقَ مِنْ تَابُوتٍ فِي الْقَافِلَةِ وَفِيهِ الْمَيِّتُ لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ تَحَقُّقِ الْخَلَلِ فِي الْمَالِيَّةِ وَمَا بَعْدَهَا.
هَذَا وَلَوْ اعْتَادَ لِصٌّ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَهُ سِيَاسَةً لَا حَدًّا، وَهُوَ مَحْمَلُ مَا رَوَاهُ لَوْ صَحَّ.

متن الهداية:
(وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) لِأَنَّهُ مَالُ الْعَامَّةِ وَهُوَ مِنْهُمْ.
قَالَ: (وَلَا مِنْ مَالٍ لِلسَّارِقِ فِيهِ شَرِكَةٌ) لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْطَعُ وَهُوَ قول حَمَّادٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ.
وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُحَرَّزٌ وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ قَبْلَ الْحَاجَةِ (وَلَنَا أَنَّهُ مَالُ الْعَامَّةِ وَهُوَ مِنْهُمْ) وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ مِثْلُهُ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَالَ: أَرْسِلْهُ فَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ (وَلَا يُقْطَعُ مِنْ مَالٍ لِلسَّارِقِ فِيهِ شَرِكَةٌ) بِأَنْ يَسْرِقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ حِرْزِ الْآخَرِ مَالًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا (لِمَا قُلْنَا) مِنْ أَنَّ لِلسَّارِقِ فِيهِ حَقًّا.

متن الهداية:
(وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ فَسَرَقَ مِنْهُ مِثْلَهَا لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لِحَقِّهِ)، وَالْحَالُّ وَالْمُؤَجَّلُ فِيهِ سَوَاءٌ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، وَكَذَا إذَا سَرَقَ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ لِأَنَّهُ بِمِقْدَارِ حَقِّهِ يَصِيرُ شَرِيكًا فِيهِ (وَإِنْ سَرَقَ مِنْهُ عُرُوضًا قُطِعَ) لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ إلَّا بَيْعًا بِالتَّرَاضِي.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ قَضَاءً مِنْ حَقِّهِ أَوْ رَهْنًا بِحَقِّهِ.
قُلْنَا: هَذَا قول لَا يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ فَلَا يُعْتَبَرُ بِدُونِ اتِّصَالِ الدَّعْوَى بِهِ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ لِأَنَّهُ ظَنٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَلَوْ كَانَ حَقُّهُ دَرَاهِمَ فَسَرَقَ مِنْهُ دَنَانِيرَ قِيلَ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ، وَقِيلَ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ النُّقُودَ جِنْسٌ وَاحِدٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ فَسَرَقَ مِثْلَهَا لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لِحَقِّهِ، وَالْحَالُّ وَالْمُؤَجَّلُ فِي عَدَمِ الْقَطْعِ سَوَاءٌ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ أَخْذُهُ قَبْلَ الْأَجَلِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ الْمُطَالَبَةُ يَصِيرُ شُبْهَةً دَارِئَةً وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُهُ الْإِعْطَاءُ الْآنَ (وَكَذَا لَوْ سَرَقَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ) لَا يُقْطَعُ (لِأَنَّ بِالزِّيَادَةِ يَصِيرُ شَرِيكًا فِي ذَلِكَ الْمَالِ) بِمِقْدَارِ حَقِّهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَدْيُونِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ مُمَاطِلًا أَوْ غَيْرَ مُمَاطِلٍ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي تَفْصِيلِهِ بَيْنَ الْمُمَاطِلِ فَلَا يُقْطَعُ بِهِ وَغَيْرِ الْمُمَاطِلِ فَيُقْطَعُ.
وَلَوْ أُخِذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ، فَإِنْ كَانَ حَقُّهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَأَخَذَ عُرُوضًا قُطِعَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُهَا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَقول: أَخَذْتهَا رَهْنًا بِدَيْنِي فَلَا يُقْطَعُ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ نُقِلَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى) قَضَاءً لِحَقِّهِ أَوْ رَهْنًا بِهِ (قُلْنَا: هَذَا قول لَا يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ) فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً دَارِئَةً إلَّا إنْ ادَّعَى ذَلِكَ (وَإِنْ كَانَ دَرَاهِمَ فَأَخَذَ دَنَانِيرَ) أَوْ عَلَى الْقَلْبِ اُخْتُلِفَ فِيهِ (قِيلَ يُقْطَعُ) لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ قِصَاصًا بِحَقِّهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ بَيْعًا فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّرَاضِي فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهَا (وَقِيلَ لَا يُقْطَعُ) لِلْمُجَانَسَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ، وَيُقْطَعُ لَوْ سَرَقَ حُلِيًّا مِنْ فِضَّةٍ وَدَيْنُهُ دَرَاهِمُ، وَلَوْ سَرَقَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْعَبْدُ مِنْ غَرِيمِ الْمَوْلَى قُطِعَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى وَكَّلَهُمَا بِالْقَبْضِ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ حِينَئِذٍ لَهُمَا.
وَلَوْ سَرَقَ مِنْ غَرِيمِ أَبِيهِ أَوْ غَرِيمِ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ أَوْ غَرِيمِ مُكَاتَبِهِ أَوْ غَرِيمِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ قُطِعَ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِغَيْرِهِ.
وَلَوْ سَرَقَ مِنْ غَرِيمِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ لَا يُقْطَعُ.

متن الهداية:
(وَمَنْ سَرَقَ عَيْنًا فَقُطِعَ فِيهَا فَرَدَّهَا ثُمَّ عَادَ فَسَرَقَهَا وَهِيَ بِحَالِهَا لَمْ يُقْطَعْ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ، لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُتَكَامِلَةٌ كَالْأُولَى بَلْ أَقْبَحُ لِتَقَدُّمِ الزَّاجِرِ، وَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ الْمَالِكُ مِنْ السَّارِقِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ ثُمَّ كَانَتْ السَّرِقَةُ.
وَلَنَا أَنَّ الْقَطْعَ أَوْجَبَ سُقُوطَ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ إنْ عَادَتْ حَقِيقَةُ الْعِصْمَةِ بَقِيَتْ شُبْهَةُ السُّقُوطِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّ، وَقِيَامُ الْمُوجِبِ وَهُوَ الْقَطْعُ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ سَبَبِهِ، وَلِأَنَّ تَكْرَارَ الْجِنَايَةِ مِنْهُ نَادِرٌ لِتَحَمُّلِهِ مَشَقَّةَ الزَّاجِرِ فَتُعَرَّى الْإِقَامَةُ عَنْ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَقْلِيلُ الْجِنَايَةِ، وَصَارَ كَمَا إذَا قَذَفَ الْمَحْدُودُ فِي قَذْفٍ الْمَقْذُوفَ الْأَوَّلَ.
قَالَ: (فَإِنْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ غَزْلًا فَسَرَقَهُ وَقُطِعَ فَرَدَّهُ ثُمَّ نُسِجَ فَعَادَ فَسَرَقَهُ قُطِعَ) لِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ تَبَدَّلَتْ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ بِهِ، وَهَذَا هُوَ عَلَامَةُ التَّبَدُّلِ فِي كُلِّ مَحَلٍّ، وَإِذَا تَبَدَّلَتْ انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ، وَالْقَطْعُ فِيهِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ ثَانِيًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ سَرَقَ عَيْنًا فَقُطِعَ فِيهَا فَرَدَّهَا) بِأَنْ كَانَتْ قَائِمَةً (ثُمَّ عَادَ فَسَرَقَهَا وَهِيَ بِحَالِهَا يُقْطَعُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ) وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ (لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ) فِيمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِطَرِيقٍ فِيهِ الْوَاقِدِيُّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «إذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ الْيُسْرَى» الْحَدِيثَ (وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ الثَّانِيَةَ مِثْلُ الْأُولَى) فِي سَبَبِيَّةِ الْقَطْعِ (بَلْ أَفْحَشُ) لِأَنَّ الْعَوْدَ بَعْدَ الزَّجْرِ أَقْبَحُ.
وَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ الْمَالِكُ مِنْ السَّارِقِ، وَيَخُصُّ أَبَا يُوسُفَ أَنَّ الْمَسْرُوقَ عَادَ تَقَوُّمُهُ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ وَلِهَذَا يَضْمَنُ السَّارِقُ لَوْ أَتْلَفَهُ بَعْدَ الرَّدِّ فَتَمَّتْ سَبَبِيَّةُ الْقَطْعِ كَمَا لَوْ سَرَقَ غَيْرَهُ أَوْ سَرَقَهُ هُوَ مِنْ غَيْرِهِ (وَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْمَالِكُ مِنْ السَّارِقِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ ثُمَّ كَانَتْ السَّرِقَةُ) فَإِنَّهُ يُقْطَعُ اتِّفَاقًا.
(وَلَنَا أَنَّ الْقَطْعَ أَوْجَبَ سُقُوطَ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ) فِي حَقِّ السَّارِقِ (وَبِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ إنْ عَادَتْ حَقِيقَةُ الْعِصْمَةِ بَقِيَتْ شُبْهَةُ أَنَّهَا سَاقِطَةٌ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّ وَقِيَامِ الْمُوجِبِ) لِلسُّقُوطِ (وَهُوَ الْقَطْعُ) فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ يُوجِبُ بَقَاءَ السُّقُوطِ الَّذِي تَحَقَّقَ بِالْقَطْعِ فَحَيْثُ عَادَتْ الْعِصْمَةُ وَانْتَفَى السُّقُوطُ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ كَانَ مَعَ شُبْهَةِ عَدَمِهِ فَيَسْقُطُ بِهَا الْحَدُّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَقَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّ السُّقُوطَ لَيْسَ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَقْطُوعِ يَدَهُ لَا سِوَاهُ فَيُقْطَعُ، وَبِخِلَافِ صُورَةِ الْبَيْعِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ السَّارِقِ وَسَرِقَةُ السَّارِقِ إيَّاهُ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ فِيهِمَا تَبَدُّلَ الْمَلِكِ، وَتَبَدُّلُ الْمِلْكِ يُوجِبُ تَبَدُّلَ الْعَيْنِ حُكْمًا كَمَا عُرِفَ مِنْ حَدِيثِ بَرِيرَةَ مِنْ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا مِنْهَا هَدِيَّةٌ» مَعَ أَنَّهُ عَيْنُ اللَّحْمِ، مَعَ أَنَّ مَشَايِخَ الْعِرَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِي صُورَةِ تَبَدُّلِ الْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَهُ فَلَا يَتِمُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ مَشَايِخِ بُخَارَى يُقْطَعُ لِتَبَدُّلِ الْعَيْنِ حُكْمًا وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا.
وَأَيْضًا فَتَكْرَارُ الْجِنَايَةِ بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ نَادِرٌ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ لَا يُشْرَعُ فِيهِ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ زَاجِرَةٌ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تُعَرَّى عَنْ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَقْلِيلُ الْجِنَايَةِ، إذْ هِيَ قَلِيلَةٌ بِالْفَرْضِ فَلَمْ تَقَعْ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ قَذَفَ شَخْصًا فَحُدَّ بِهِ ثُمَّ قَذَفَهُ بِعَيْنِ ذَلِكَ الزِّنَا بِأَنْ قَالَ أَنَا بَاقٍ عَلَى نِسْبَتِي إلَيْهِ الزِّنَا الَّذِي نَسَبْته إلَيْهِ لَا يُحَدُّ ثَانِيًا، فَكَذَا هَذَا، أَمَّا لَوْ قَذَفَهُ بِزِنًا آخَرَ حُدَّ بِهِ.
وَأُورِدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ النَّقْضُ بِالزِّنَا ثَانِيًا بِالْمَرْأَةِ الَّتِي زَنَى بِهَا أَوَّلًا بَعْدَ أَنْ جُلِدَ حَدًّا بِزِنَاهُ الْأَوَّلِ بِهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ ثَانِيًا إجْمَاعًا، فَلَمْ يَكُنْ تَقَدُّمُ الزَّاجِرِ مُوجِبًا لِعَدَمِ شَرْعِيَّتِهِ.
ثَانِيًا وُقُوعُهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لَوْ شَرَعَ.
وَأُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ فِي الزِّنَا لَا تَسْقُطُ بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ، بِخِلَافِ السَّرِقَةِ، وَهَذَا فَرْقٌ صَحِيحٌ يَتِمُّ بِهِ وَجْهُ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ لَكِنَّهُ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِلنَّقْضِ الْوَارِدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِخُصُوصِهِ: أَعْنِي كَوْنَ إقَامَةِ الْحَدِّ أَوَّلًا تُوجِبُ نُدْرَةَ الْعَوْدِ فَتُوجِبُ عَدَمَ شَرْعِ الزَّاجِرِ فِي الْعَوْدِ، وَكَذَا الْفَرْقُ بِأَنَّ الْقَطْعَ حَقٌّ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ وَالْخُصُومَةُ لَا تَتَكَرَّرُ فِي مَحَلٍّ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مُوجِبِ مَا هِيَ فِيهِ كَحَدِّ الْقَذْفِ غَيْرِ دَافِعِ الْوَارِدِ عَلَى خُصُوصِ هَذَا الْوَجْهِ الْمُدَّعَى اسْتِقْلَالُهُ.
قولهُ: (فَإِنْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ) الْمَسْرُوقُ الَّذِي قُطِعَ بِهِ (غَزْلًا ثُمَّ نُسِجَ) بَعْدَ رَدِّهِ (فَسَرَقَهُ) ثَانِيًا (قُطِعَ) وَكَذَا لَوْ كَانَ قُطْنًا فَصَارَ غَزْلًا (لِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ تَبَدَّلَتْ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ) وَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ مَعَ قِيَامِهِ بِصُورَةِ الثَّوْبِ.
وَإِذَا تَبَدَّلَتْ الْعَيْنُ انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ وَالْقَطْعِ وَهُوَ بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى لَفْظِ اتِّحَادِ لَا عَلَى لَفْظِ الْمَحَلِّ: أَيْ وَانْتَفَتْ الشُّبْهَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ الْقَطْعِ لَا مِنْ اتِّحَادِ الْقَطْعِ وَهِيَ شُبْهَةُ قِيَامِ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْعَيْنِ وَالتَّغَيُّرُ يُوجِبُهَا شَيْئًا آخَرَ.
فَإِنْ قِيلَ: الْعَيْنُ قَائِمَةٌ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا تَبَدَّلَ الِاسْمُ وَالصُّورَةُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُتَمَكِّنَ قَبْلَ تَبَدُّلِ الصُّورَةِ شُبْهَةُ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ فَكَانَ الْمُتَمَكِّنُ بَعْدَهُ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ.
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: وَإِذَا سَرَقَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً وَقُطِعَ بِهِ وَرَدَّهُ فَجَعَلَهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ آنِيَةً أَوْ كَانَتْ آنِيَةً فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ ثُمَّ عَادَ السَّارِقُ فَسَرَقَهُ لَا يُقْطَعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَمْ تَتَغَيَّرْ عِنْدَهُ، وَقَالَا: يُقْطَعُ لِأَنَّهَا تَغَيَّرَتْ.
وَفِي كِفَايَةِ الْبَيْهَقِيّ: سَرَقَ ثَوْبًا فَخَاطَهُ ثُمَّ رَدَّهُ فَنُقِضَ فَسَرَقَ الْمَنْقُوضَ لَا يُقْطَعُ، لِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ لَوْ فَعَلَهُ الْغَاصِبُ فَلَمْ يَصِرْ فِي حُكْمِ عَيْنٍ أُخْرَى.